الأحد، 24 يناير 2010

محاضرات في مقاصد الشريعة

لا بد قبل تعريف المقاصد من ذكر أقسامها على وجه العموم ، حتى يتميز القسم الذي نستهدفه بهذه المحاضرات .
فالمقاصد على ثلاثة أقسام :
1. مقاصد الخالق من الخلق : وهي أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً قال تعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) .
2. مقاصد الخالق من وضع الشريعة : وهذا هو الذي نحن بصدده .
3. مقاصد المكلفين : وهي المقاصد المعبر عنها بقاعدة : الأمور بمقاصدها ، وهي التي تتناول النية وأثرها في الأحكام.
تعريف مقاصد الشريعة :
1- تعريفها باعتبارها مركباً 2- تعريفها باعتبارها لقباً .
v 1- تعريفها باعتبارها مركباً :ـــ
مقاصد: جمع مقصد ، والمقصد مصدرميمي ، مأخوذ من الفعل قصد ، يقال : قصد يقصد قصداً ومقصداً ، وهذه الكلمة لها ثلاث معان أصلية هي :
1. إتيان الشيء وأمه. 2- الكسر والانكسار. 3- الاكتناز في الشيء.
لكنها في اللغة تطلق على معانٍ كثيرة هي :
1. الاعتماد والأم وطلب الشيء وإتيانه والتوجه إليه ، يقال :قصده ، وقصد له وقصد إليه إذا أمّه ، وأقصده السهم إذا أصابه في مقتل.
2. استقامة الطريق، ومن ذلك ، قوله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ) ، أي على الله تبيين الطريق المستقيم والدعاء إليه بالحجج والبراهين الواضحة.
3. العدل والتوسط وعدم الإفراط ، ومن ذلك قوله تعالى : ( واقصد في مشيك ) ،(ومنهم مقتصد) .
4. القرب ، يقال : بيننا وبين الماء ليلة قاصدة: أي هينة سهلة ، ومنه قوله تعالى : ( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ) أي موضعا قريبا سهلا.
5. الكسر بأي وجه كان حسيا أو معنويا ، يقال : قصدت العود قصداً أي كسرته ومنه القِصدة: القطعة من الشيء إذا تكسر ، وانقصد الرمح إذا انكسر.
6. الاكتناز في الشيء ، يقال : ناقة قصيد أي مكتنزة لحماً، ومن ذلك تسمية قصيدة الشعر بهذا الاسم لأن أبياتها تكون تامة الأبنية.
هذه أهم إطلاقات المقصد في اللغة العربية أما المعاني الأصلية فهي ثلاثة كما تقدم .
وبعد استعراض هذه المعاني نلاحظ أن المعنى الأول هو الذي يتناسب مع المعنى الاصطلاحي لأن الأم والاعتماد وإتيان الشيء والتوجه إليه كلها تدور حول إرادة الشيء والعزم عليه ، مع أن المعنيين الثاني والثالث( الاستقامة والعدل ) لهما صلة ظاهرة بالمعنى الاصطلاحي.
تعريف الشريعة :
أصلها في اللغة : مورد الشاربة التي يشرعها الناس فيشربون منها ويستقون ، ولذا يقال شريعة الماء ، قال ابن فارس : واشتق من ذلك الشرعة في الدين والشريعة ، قال تعالى : ( لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) وقال تعالى : ( ثم جعلناك على شريعة من الأمر ) فالشريعة غلب إطلاقها على الدين والملة والمنهاج والطريقة والسنة .
وفي الاصطلاح :
اسم لكل ما سنه الله لعباده من الأحكام عن طريق نبي من أنبيائه عليهم السلام .
لكنها بعد الرسالة المحمدية أضحت مصطلحا يراد به شريعة الإسلام على وجه الخصوص.
وبعد تمحض العلوم الإسلامية وتميزها غلب إطلاقها على نوع خاص من الأحكام في الإسلام وهو الأحكام العملية فصارت تقابل الأحكام الاعتقادية، ولذا يقال : الإسلام عقيدة و شريعة ، ولا مشاحة في الاصطلاح. تعريف مقاصد الشريعة باعتبارها لقبا أو علما على عِلم معين :
إن المتأمل في كتب المتقدمين من علماء أصول الفقه كالجويني والغزالي والآمدي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وغيرهم ، لا يمكنه أن يظفر بتعريف جامع مانع لمقاصد الشريعة، وإنما يجد أن عبارتهم في ضبط المصطلح تدور حول أمرين :ـ
1. بيان المقصد الأصلي من تشريع الأحكام وهو جلب المصلحة ودفع المضرة.
2. حصر المقاصد وتعدادها وبيان وجوه رعايتها، ووجوب المحافظة عليها.
قال الغزالي : ، ومقصود الشرع من الخلق خمسة ، وهو أن يحفظ عليهم دينهم ونفسهم وعقلهم ونسلهم ومالهم ، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.

بل إن الشاطبي - وهو أشهر من تحدث عن المقاصد- لم يعرفها بتعريف جامع مانع ، وإنما قسمها تقسيما خاصا به فجعلها على قسمين:
1) قصد الشارع 2) قصد المكلف
ثم قسم قصد الشارع إلى أربعة أقسام :
1. قصده من وضع الشريعة ابتداءً : وهو أنه وضعها لمصالح العباد في الدارين.
2. قصده في وضعها للإفهام : وقد تناول تحته مباحث اللغة ، وأن الشريعة جاءت باللغة العربية ، والقضايا المتعلقة بكون القرآن نزل باللغة العربية وكذلك السنة ....... الخ.
3. قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها : وقد بحث تحته اشتراط القدرة في التكليف، وأن الشارع لم يكلف الخلق إلا بما يستطيعونه ويقدرون عليه، وتناول تحته قضايا التيسير والحرج وما إلى ذلك.
4. قصده في دخول المكلف تحت حكم الشريعة : وهو أن يتخلص المكلف من داعية هواه ، وأن يكون عبداً لله اختياراً كما أنه عبد لله اضطراراً.
لكن بعض الباحثين المتأخرين الذين تصدوا للتأليف في هذا العلم حاولوا أن يضبطوا المقاصد بتعريف يميزها عن غيرها، ومن أشهر هؤلاء ما يلي ـ:
1) ابن عاشور :
محمد الطاهر بن عاشور كان مفتي تونس في عصره توفي سنة 1393هـ ،ويعد من أشهر من عرف المقاصد ، حيث عرفها بأنها : المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة .
وقد ذكر رحمه الله : أنه يدخل في ذلك أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع من ملاحظتها ، كما يدخل فيه أيضاً معانٍ من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها.
وعرفها ابن عاشور في موضع آخر من كتابه : بأنها الأعمال والتصرفات المقصودة لذاتها والتي تسعى النفوس إلى تحصيلها بمساع شتى أو تحمل على السعي إليها امتثالاً.
2) علال الفاسي :
المتوفي سنة 1394هـ ،
وقد عرف مقاصد الشريعة : بأنها الغاية منها والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها .
3) أحمد الريسوني :
عرف المقاصد بأنها : الغايات التي وضعت الشريعة لأجل تحقيقها لمصلحة العباد .
4) يوسف العالم :
عرفها : بأنها المصالح التي تعود إلى العباد في دنياهم وأخراهم سواء أكان تحصيلها عن طريق جلب المنافع أو عن طريق دفع المضار.

5) محمد اليوبي :
عرفها :أنها المعاني والحكم ونحوها التي راعاها الشارع في التشريع عموماً وخصوصاً من أجل تحقيق مصالح العباد.
وهناك العديد من التعريفات الأخرى ، وممن عرف المقاصد كذلك الحسني، والخادمي، والزحيلي وخليفة بابكر الحسن ،ويوسف البدوي، وغيرهم مما كتب في هذا العلم، وجميع هؤلاءعرفوها بتعريفات تبدو في ظاهرها مختلفة لكنها متقاربة وتدور حول معنى واحد يجمع هذه التعريفات جميعاً ،
وأنسب تعريف لمقاصد الشريعة أن يقال : أنها الغايات التي وضعت الشريعة من أجلها والحكم والأسرار التي وضعها الشارع عند كل حكم من أحكامها .
وسبب اختيار هذا التعريف :
أنه يشمل المقاصد العامة والخاصة : فالمقاصد العامة هي التي جعل الله هذه الشريعة من أجلها كالضروريات الخمس و الكليات المهمة الأخرى كالعدل، ورفع الحرج، والمساواة، والائتلاف، وغيرها.
والمقاصد الخاصة أو الجزئية وهي التي تختص بكل باب من أبواب التشريع كالمقاصد الخاصة بالعبادات، والمعاملات ، وأحكام الأسرة ، والجنايات والحدود ونحوها.
والتعبير عن المقاصد بالغايات ورد على ألسنة العلماء المتقدمين وإن لم يكن لهم تعريفات جامعة مانعة لمقاصد الشريعة .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : الغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته سبحانه وتعالى وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة تدل على حكمته البالغة .
ويقول في تعريف الحكمة : هي الغايات والمقاصد في أفعاله سبحانه .
ويقول: المقاصد في الأقوال والأفعال هي عللها التي هي غاياتها ونهاياتها .
المصطلحات ذات الصلة بالمقاصد :
هناك مصطلحات ذات صلة بالمقاصد لابد من تعريفها وبيان الفرق بينها وبين المقاصد :
1. الحكم : جمع حكمة ، والحكمة في اللغة من الفعل حكم ، والحاء والكاف والميم أصل واحد بمعنى منع ، ومنه الحَكَمة وهي اللجام الذي يمنع الفرس من الاضطراب ، والحكم بسكون الكاف المنع من الظلم ، وحكمت السفيه وأحكمته إذا أخذت على يديه ، والحكمة هذا قياسها لأنها تمنع من الجهل، ويطلق الحكم على القضاء باعتبار أن الحاكم يمنع الظلم.
الحكمة في الاصطلاح العام : هي وضع الشيء في موضعه .
ويعبر بها بعض العلماء عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم ، و لذلك يقال لمن يحسن دقائق الأشياء حكيم.
ويعرفها الشريف الجرجاني : بأنها هيئة القوة العلمية المتوسطة بين الغريزة التي هي إفراط هذه القوة والبلادة التي هي تفريطها .
الحكمة في الاصطلاح الشرعي : تطلق على العلم والفقه المستند إلى النظر الخاص والفهم الدقيق ، قال تعالى ( يؤتي الحكمة من يشاء ) وقال سبحانه: ( ولقد آتينا لقمان الحكمة ).
وإذا اقترنت الحكمة بالكتاب فالمراد بها السنة ، كما نص على ذلك الإمام الشافعي ونسبه إلى الأئمة بعض العلماء قبله .
وهذه الإطلاقات والمعاني ليست موضع بحثنا هنا، بل ما يهمنا معنى هذا المصطلح عند علماء الأصول والذي يتكرر كثيرا في باب القياس.
المراد بالحكمة عند علماء الأصول: يعبر علماء الأصول أو لنقل جمهورهم بالحكمة عن الغاية من التعليل، وهي جلب المصلحة أو دفع المفسدة، ولهذا نجد أن أغلب تعريفاتهم لها تدور حول هذا المعنى .
يقول الرازي : (وهو أبو بكر الفخر الرازي المتوفي 606هـ ) – معرفا لها- الحاجة إلى تحصيل المصلحة ودفع المفسدة وهي التي يسميها الفقهاء بالحكمة.
ويقول ابن الهمام الحنفي : (من علماء الحنفية متوفي عام 861هـ ) : الحكمة هي جلب مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها .
ويقول الزركشي : وهي الحاجة إلى جلب مصلحة أو دفع مفسدة ،
فهناك جمع من الأصوليين يرون أن الحكمة هي المعنى العام الذي يعبر عن الغاية من التعليل.

ويرى بعض علماء الأصول : أن الحكمة مرادفة للعلة فيفسرون العلة بالحكمة .
قال ابن قدامه : والثالث- أي المعنى الثالث للعلة - إطلاقه بإزاء الحكمة كقولهم المسافر يترخص لعلة المشقة.
ويقول الشاطبي : وأما العلة فالمراد بها الحكم والمصالح التي تعلقت بها الأوامر أو الإباحة ، والمفاسد التي تعلقت بها النواهي.
فالمشقة مثلاً علة لإباحة القصر ، والفطر في السفر كما يرى الشاطبي ..
والحق أن إطلاق العلة على الحكمة والعكس إنما هو من باب المجاز ، لأن العلة أخص وأدق من الحكمة كما سيأتي .
وقد حاول بعض علماء الأصول ضبط الحكمة بتعريف يفصلها عن العلة ومن هؤلاء:
السرخسي : حيث عرفها بأنها المعنى الذي يكون به الوصف علة موجبة للحكم شرعاً.
والآمدي حيث عرف الحكمة بأنها: المعنى المقصود للشرع من إثبات حكم أو نفيه .
فالحكمة باختصار : هي :المعنى المناسب الذي قصده الشارع من الحكم.
ومن هنا تظهر صلة هذا المصطلح بمصطلح المقاصد ، حيث نلاحظ أن البعض يجعل الحكمة مرادفة للمقصد ، في حين يرى آخرون أن الحكمة في باب القياس أعم من المقصد، لأن المراد بها المعنى المناسب الذي جعل لأجله الوصف علة، سواء كان هذا المعنى مقصداً شرعياً صريحاً كالمشقة في السفر أو مجرد مصلحة مخيلة مناسبة كجعل الغضب علة لتحريم قضاء القاضي وهو غضبان ، فإن الحكمة هي تشويش الفكر، ولهذا يمكن أن توجد في غير الغضب من شدة البرد أو الحر أو حال الجوع أو العطش أو نحو ذلك.

2. العـلل : جمع علة ، والعلة في اللغة لها ثلاثة معانٍ أصلية هي :
‌أ) التكرر أو تكرار الشيء، ومنه العلل ، يقال : علل بعد نهل، فالشربة الأولى تسمى : النهل ، والشربة الثانية تسمى : العلل ، يقال : علّ أي شرب مرة أخرى بعد أن نهل في المرة الأولى.
ب‌) العائق الذي يعوق عن فعل شيء ، يقال : لا تعدم خرقاء علة.
قال الخليل : العلة حدث يشغل صاحبه عن وجهه .
ج ) الضعف في الشيء ، يقال : فلان معتل أي مريض ، وفلان عليل أي مريض ، والعّلُ : الرجل المسن الذي تضاءل جسمه.
وأماالعلة في اصطلاح الأصوليين :
فقد اختلفوا في تعريفها تبعاً لاختلاف آرائهم في حدودها ،وأثرها، وما يصح التعليل به وما لا يصح، ولهم في ذلك أقوال كثيرة أهمها ما يأتي : ـ
1. أنها المعرف للحكم بمعنى :ـ أن الشارع جعلها أمارة وعلامة على الحكم فمتى وجدت وجد الحكم ، وهو مذهب أكثر الأشاعرة، واختاره جمع من علماء الأصول، كالصيرفي والدبوسي والبيضاوي والرازي والزركشي.
2. أنها الموجبة للحكم لا لذاتها وإنما يجعل الشارع لها موجبة للأحكام، وهو مذهب جمع من علماء الأصول، واختاره الغزالي.
3. أنها الموجبة للحكم بذاتها لا بجعل الله ، وهو قول المعتزلة بناء على قاعدتهم في التحسين و التقبيح العقليين .
4. أنهاالموجبة للحكم بالعادة وهو اختيار الرازي .
5. أنها الباعث على تشريع الحكم ، بمعنى : أنه لا بد أن يكون الوصف مشتملا على حكمة صالحة أن تكون مقصودة من شرع الحكم، وهو اختيار عدد من علماء الأصول، كالآمدي وابن الحاجب ،وهو ما انتهى إليه الشاطبي الذي يفسر العلة بالحكمة.
وهذه الأقوال وإن بدت مختلفة ، إلا أنها في حقيقة الأمر ليست كذلك إذا ما استثنينا قول المعتزلة المبني على أصلهم الباطل ، وذلك لأن الخلاف بينها عائد إلى الاعتبارات فمن نظر إلى أن المكلف يتعرف بواسطة العلة على الحكم قال أنها المعرف أو الأمارة أو العلامة ،ومن نظر إلى أن الحكم المبني عليها يحقق مصلحة للعباد أو يدفع مفسدة عنهم قال : بأنها موجبة ومؤثرة وباعثة ،وكل ذلك بجعل الله لها وليس بذاتها، فالعلة الحقيقية شرعاً هي الحكمة، والوصف الظاهر المنضبط مظنة لها ، يقول ابن الحاجب في شأن الحكمة : لأنا نعلم قطعاً أنهاهي المقصودة للشارع، واعتبر المظنة لأجلها لمانع خفائها واضطرابها، ولأجل هذا المعنى الأخير أعني خفاء الحكمة واضطرابها نجد أن علماء الأصول قد اختلفوا في حكم التعليل بها في حين أنهم متفقون على جواز التعليل بالوصف الذي يعد مظنة لها وأمارة عليها، ولذا وبناء على هذه الرؤية يمكن القول بأن التعريف المختار للعلة هو : أنها الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على المعنى المناسب لتشريع الحكم.
العلاقة بين المقصد والعلة :
من خلال ما تقدم نلاحظ أن بينهما صلة وثيقة خصوصاً عند من يرى أن العلة هي الباعث على تشريع الحكم وأنه لا فرق بينهما وبين الحكمة، وتظهر الصلة بينهما كذلك على التعريف المختار للعلة وهو أنها الوصف الظاهر المنضبط المشتمل على المعنى المناسب لتشريع الحكم ، من حيث إن الوصف المناسب هو مظنة المعنى المؤثر والأمارة الدالة عليه ، والمعنى المؤثر هو جلب المصلحة ودفع المفسدة ، وهذا هو المقصد العام في الشريعة الإسلامية والذي تؤول إليه كافة المقاصد.

3. المصالح :
لغة : جمع مصلحة وهي في اللغة كالمنفعة وزناً ومعنى ، والصلاح هو الخير والصواب في الأمر .
وأما في الاصطلاح : فقد اختلفت وجهات نظر علماء الأصول في ضبط المصلحة ، فمنهم من يعبر بها : عن النفس المقصود للشارع، ومنهم من يعبر بها عن اللذات والأفراح ، فالعز بن عبد السلام يرى أن المصلحة شيء زائد من اللذة والفرح وليست مجرد شيء عادي .. ،
والصحيح هو ما اختاره الغزالي حينما قال : أما المصلحة فهي عبارة في الأصل عن جلب مصلحة أو دفع مفسدة،ولسنا نعني بها ذلك ، فإن جلب المنفعة ودفع المفسدة من مقاصد الخلق ، وصلاح الخلق في تحصيل مقاصدهم لكنا نعني بالمصلحة : المحافظة على مقصود الشرع من الخلق .
ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر المقاصدالضرورية :
فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة ، وإذا أطلقنا المعنى المخيل والمناسب في كتاب القياس أردنا به هذا الجنس.
ومن خلال كلام الغزالي تظهر العلاقة الوثيقة بين المقاصد والمصالح من جهة أن المصلحة لا تعتبر شرعاً إلا إذا كانت محققة لمقصد شرعي ، ومقاصد الشريعة كلها مصالح للعباد في الدنيا والآخرة.
إثبات المقاصد للشريعة الإسلامية :
v أو لنقل :الأدلة على وجود مقاصد للشريعة :
لابد قبل ذكر الأدلة على وجود مقاصد للشريعة الإسلامية من الإشارة ولو باختصار إلى المسألة الكلامية التي انبنى عليها هذا الأصل ، وهي مسألة تعليل الأحكام ، فهل أفعال الباري سبحانه وتعالى وأحكامه معلله أم لا ؟ هذه مسألة كلامية مشهورة وأهم الأقوال فيها ما يلي :
1. أن أحكام الله غير معللة بل خلق المخلوقات وأمربالمأمورات لا لعلة ولا باعث ، وإنما فعل ذلك بمحض المشيئة والإرادة ، وهذا قول الأشعرية والظاهرية نفاة القياس ، واختاره الرازي ودافع عنه ، وحاصل هذا القول: أن الله سبحانه وتعالى قادر على إيجاد المصلحة بدون أسبابها ، وإعدام المضار بدون دوافعها .
2. أن أحكام الله معللة ، لأنه يجب عليه فعل الأصلح لعباده، وهو مذهب المعتزلة الذين زعموا أن تصرفه سبحانه مقيد بالحكمة ، مضيق بوجه المصلحة والغرض ، وإليه مال بعض فقهاء الحنفية .
3. أن أحكامه معللة ، بمعنى : أنها شرعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد ، فمن استقرء جزيئات الشريعة أدرك وجه رعاية الحكمة فيها وهو مذهب أهل السنة والجماعة، وبه قال عامة الفقهاء وهذا هو القول المختار في المسألة.

الأدلة على إثبات المقاصد للشريعة الإسلامية:
1. الاستقراء : فإن المتتبع لأحكام الشريعة الإسلامية يجزم بأنها وضعت لمصالح العباد في المعاش والمعاد ، وهذا الاستقراء لا ينكره إلا معاند.
2. النصوص الدالةعلى وجود مقاصد للشريعة، وهذه النصوص وردت بأساليب متنوعة ،أهمها ما يلي :ـ
1) النصوص الدالة على وصف الباري سبحانه بالحكيم ، وهذا يقتضي أن تكون أحكامه مشروعة لمقاصد وغايات ، وليست من قبيل العبث ، وقد وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالحكمة فيما يزيد عن مائة موضع في القرآن.
2) النصوص الدالة على أنه سبحانه أرحم الراحمين ، قال تعالى ( ورحمتي وسعت كل شيء ) ، وقال:(وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) ولو لم تكن أوامره من أجل الحكمة والمصلحة وإرادة الإحسان إلى عباده لما كانت رحمة لهم ، ولما حصلت بها الرحمة اتفاقاً، ولأجل هذا كانت الرحمة هي الغاية من بعثة النبي عليه السلام ، حيث يقول سبحانه : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) .
3) النصوص الدالة على أهمية القرآن، وعظم فائدته للخلق، ووصفه بأنه نور، وحياة، وروح ، ومنها 1- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ،
2- قوله تعالى : ( إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ)
3- قوله تعالى : ( وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً) .
4- قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ )
5- قوله تعالى : ( أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا )
6- قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا )
ولا شك أن وصف القرآن بالشفاء والهدى والرحمة والنور ،وأنه سبب للحياة والفرح وأنه خير من كل شيء ، يدل على أنه قد جمع مصالح الدنيا والآخرة ، والقرآن هو أساس الشريعة .
4) النصوص الدالة على وصف الرسول عليه السلام بالحرص على الأمة والرأفة بهم ،
كقوله تعالى :(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيمٌ)
ومثلها النصوص التي دلت على أن رسالته عليه السلام جاءت لتحقيق كل خير ودرء كل شر
كقوله تعالى :(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ والإنجيل يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )
ولأن هذه الرسالة اشتملت على المصالح كلها، فقد امتن الله على عباده المؤمنين بإرسال رسوله إليهم
قال تعالى : ( لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) .
5) النصوص الدالة على أن حكمه سبحانه أحسن الأحكام ،
كقوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ، وما ذاك إلا لأن حكمه مطابق للحكمة والمصلحة المقصودة،والاستفهام الإنكاري في هذه الآية دليل صريح على هذا الأمر، فإن الله سبحانه نفى أن يكون حكم أحد أحسن من حكمه مهما بلغ ذلك الحاكم من الحكمة والمعرفة ورجاحة العقل.
6) النصوص التي جرى التصريح فيها بالحكمة والعلة ،أو بمعنى آخر: النصوص التي جرى فيها بيان علة الحكم وسببه، وهي نصوص كثيرة، بعضها في أصول الدين، وبعضها في فروعه ، فمن الآيات التي جرى التصريح فيها بالحكمة والعلة وسبب تشريع الحكم في أصول الدين:
1- قوله تعالى : - في شأن التقرير على التوحيد -( أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) ، أي ما سبب وما علة وما حكمة تقريرهم على ذلك ؟ ! ولماذا أشهدهم على أنفسهم ؟ ! حتى لا يقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين .. وفي هذا إقامة للحجة عليهم.
2- قوله تعالى :(رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) .
3- قوله تعالى :( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) ، أي أن العلة من إرسالك و الحكمة من بعثك : رحمة العالمين والشفقة بهم.
4- قوله تعالى :(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )
5- قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً )
6- قوله تعالى : ( وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي أن الغاية من خلق الجن والأنس هي عبادته سبحانه.
7- قوله تعالى : (وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ) ،أي: لأننا سنجعلكم شهوداً على الناس جعلناكم أمة وسطاً ،ولهذه فسرت الوسطية في الآية بالعدالة ، لأن الشاهد يشترط فيه أن يكون عدلاً.
8- قوله تعالى :( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ )
9- قوله تعالى :(إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ )
10- قوله تعالى:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) فلام التعليل في هذه الآيات تبين العلة والسبب والحكمة من تشريع هذه الأحكام .
ومن الآيات التي جرى التصريح فيها بالحكمة في فروع الدين وتفاصيله :
1- قوله تعالى - بعد أن بين لنا الوضوء -:( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم ويتم نعمته عليكم ) فالهدف من هذا التفصيل في الطهارة والوضوء ليس الحرج والعنت ، وإنما قصد التطهير وإتمام النعمة.
2- قوله تعالى : ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر )
3- قوله تعالى : ( فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ )
4- قوله تعالى : ( كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم )
5- قوله تعالى : ( إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا ) .
6- قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب ) .
والتصريح بالحكمة والمقصد كما ورد في القرآن ورد في السنة كذلك كقوله عليه السلام :
1- ( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر ).
2- النهي عن ادخار لحوم الأضاحي ( إنما نهيتكم من أجل الدافة ) ، الحكمة : كان النبي عليه السلام في بداية تشريع الأضحية ينهى عن ادخار لحوم الأضاحي، ثم بعد ذلك سمح بالادخار ، وقال إنما نهيتكم من أجل الدافة، وهم الفقراء الذين يتوافدون على المدينة في موسم الأضاحي.
3- النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة و خالتها ، قال عليه السلام معللا هذا الحكم: ( فإنكم إن فعلتم ذلك قطعتم أرحامكم ) ، فالعلة من تحريم الجمع أن ذلك يكون سببأ في تقطيع الأرحام.
4- الحكمة من مشروعية زيارة القبور ، قال عليه السلام ( فإنها تذكركم بالآخرة )
7) النصوص التي بينت بعض المقاصد العامة أو الخاصة للشريعة الإسلامية ، والفرق بين هذه النصوص والنصوص السابقة : أن النصوص السابقة عبارة عن آيات وأحاديث ذكرت فيها علة الحكم المذكورأو حكمته، وأما هذه النصوص فقد تضمنت التصريح بمقصد عام أو خاص من مقاصد الشريعة ، ومنها:
1- قوله تعالى: ( وما جعل الله عليكم في الدين من حرج ) ، فهذا النص يدل على أن من مقاصد الشريعة رفع الحرج.
2- قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر )
3- قوله تعالى : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) ، فهذه الآيات كلها تنص أو تثبت بشكل واضح مقصداً عاماً من مقاصد الشريعة.
4- قوله تعالى :(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ والإحسان وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)
فهذه الآية اشتملت على عدة مقاصد عامة ، وقد ذكر العز بن عبد السلام أنها تتضمن الأمر بالمصالح وأسبابها، والنهي عن المفاسد وأسبابها.
من أمثلة هذه النصوص من السنة : ـ
1- قوله عليه السلام: ( لا ضرر ولا ضرار ) .
2- وقوله عليه السلام: ( يسروا ولا تعسروا ) .
3- وقوله عليه السلام: ( إن هذا الدين يسر ) .
4- وقوله عليه السلام: ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه )
( إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ...... )

ومن الأمثلة على التصريح بالمقصد الجزئي أو الخاص:

قوله عليه السلام : ( لا يحل مال أمريء مسلم إلا بطيب نفس منه أو بطيب من نفسه ) فمن أهم المقاصد الخاصة بالمعاملات : الرضا

3. دليل العقل : فإن العقل يدل على إثبات المقاصد للشريعة من وجوه :
الوجه الأول : إن الله تعالى كرم بني آدم ، وبين فضلهم على سائر المخلوقات الأخرى بقوله : ( ولقد كرمنا بني آدم ) ومن لوازم التكريم أن يتحقق للإنسان مصالحه على أحسن الوجوه وإلا فلا يكون مكرما.
الوجه الثاني : إن الله سبحانه راعى مصالح العباد في مبدئهم ومعاشهم ،فقد أوجدهم من العدم، وسخر لهم النعم، وأمتن عليهم بذلك ، فمن المحال عقلاً أن يراعي الله عز وجل مصلحة خلقه في هذه الأمور ثم يهمل مصلحتهم في الأحكام الشرعية التي تعد أولى بالمراعاة، لأنها من مصلحة معاشهم، إذ بها صيانة أمورهم الضرورية ،من الدماء، والأموال ،والأعراض، ولا معاش بدونها ،فوجب القول بأنه راعاها لهم.
الوجه الثالث : أن تعطيل الحكمة والغاية المطلوبة من الأحكام إما أن يكون لعدم علم الفاعل بها، وهذا محال في حق من هو بكل شيء عليم ، وإما لعجزه عن تحصيلها، وهذا ممتنع في حق من هو على كل شيء قدير ، وإما لعدم إرادته ومشيئته الإحسان إلى غيره وإيصال النفع إليهم، وهذا مستحيل في حق أرحم الراحمين ومن إحسانه من لوازم ذاته فلا يكون سبحانه إلا محسناً منعمً مناناً ، وإما لمانع يمنع من إرادتها وقصدها، وهذا مستحيل في حق من لا يمنعه مانع من فعل ما يريد، بل هو فعال لما يريد، وإما لاستلزامها نقصاً ومنافاتها كمالاً، وهذا باطل، بل هو قلب للحقائق ،وعكس للفطر، ومناقض لقضايا العقول، فإن من يفعل لحكمة وغاية مطلوبة يحمد عليها أكمل ممن يفعل لا لشيء البتة ،كما أن من يخلق أكمل ممن لا يخلق، ومن يعلم أكمل ممن لا يعلم ،ومن يتكلم أكمل ممن لا يتكلم، ومن يقدر ويريد أكمل ممن لا يتصف بذلك ،وهذا مركوز في الفطر، مستقر في العقول، فنفي حكمته سبحانه وأن يكون له مقصد في الأحكام بمنزلة نفي هذه الأوصاف عنه ،وهذا يستلزم وصفه بأضدادها، وهي أنقص النقائص تعالى الله عن ذلك .

طرق معرفة المقاصد :
بعد أن تبين لنا على سبيل اليقين ثبوت المقاصد للشريعة الإسلامية .
بقي أن نعرف أهم الطرق التي تعرف بها هذه المقاصد .

أهم الطرق :
الطريق الأول : الاستقراء ويراد به :ـ تتبع الأدلة الجزئية لاستخراج الحكم الكلي الذي يشملها جميعاً يقول الشاطبي : وبيان ذلك أن تلقي العلم بالكلي إنما هو من عرض الجزئيات واستقرائها، فالكلي من حيث هو كلي غير معلوم لنا قبل العلم بالجزئيات .
الطريق الثاني : النص، والمراد به :ـ الدليل من الكتاب أوالسنة المتواترة المثبت لمقصد من مقاصد الشريعة،كقوله تعالى : ( وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، ( يريد الله ليخفف عنكم ) ، ( إن الله يأمر بالعدل) ، وقوله عليه السلام : ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) .
الطريق الثالث : الإجماع :ـ والمراد به:اتفاق مجتهدي الأمة على أن هذا الشيء مقصد من مقاصد الشريعة.
الطريق الرابع : معرفة علل الأمر والنهي بمسلك من مسالك المعتبرة في باب القياس:ـ
وهي:( النص ـ الإيماء ـ الإجماع ـ المناسبة ـ وغيرها من المسالك) .
الطريق الخامس : التعبيرات الشرعية الموحية بالمقصد:ـ كالتعبير بالإرادة الشرعية أو الخير أو النفع أو نحو ذلك ، قال تعالى ( وأن تصوموا خير لكم ) ، ( يريد الله بكم اليسر).
وسيأتي تفصيل الكلام على طرق معرفة المقاصد في حلقة نقاش مستقلة بإذن الله
أقسام المقاصد بالاعتبارات المختلفة :
تنقسم المقاصد إلى أقسام متعددة باعتبارات مختلفة أهمها ما يأتي :
1. أقسام المقاصد باعتبار رتبها، أوباعتبار نوع المصالح التي جاءت برعايتها :
وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام:
‌أ) الضروريات : وهي حفظ الدين ،والنفس، والعقل، والمال، والنسل ،أو (النسب) ويزيد بعضهم حفظ العرض ، وتسمى بالضروريات الخمس ، والضروري : هو الذي يترتب على فواته فساد الأمر المطلوب المحافظة عليه ، وهذه الضروريات اتفقت عليها جميع الديانات السماوية وأصحاب العقول السليمة ، كما نص على ذلك عدد من العلماء كالعز بن عبد السلام والآمدي والغزالي .
‌ب) الحاجيات : و هي التي إذا لم تتحقق فإنه يلحق بالإنسان مشقة كبيرة لا تصل به إلى درجة الهلاك، فإن وصلت به لدرجة الهلاك فإنه يكون أمراً ضروريًا، وأما مجردالمشقة والعناء فإنه يكون أمراً حاجياً، وذلك مثل : رفع الحرج والتخفيف عند حصول المشقة بالسفر أو المرض، وإباحة بعض المعاملات التي يحتاجها الناس كالإجارة ،والسلم، والمضاربة، والمساقاة، ونحو ذلك.
‌ج) التحسينيات : وهي مالا يرجع إلى ضرورة أو حاجة عامة مثل : مكارم الأخلاق، ومحاسن العادات ، ومثله : كل ما يتعلق بالطهارة في البدن والثياب والمكان، وآداب الأكل والشرب ،وأخذ الزينة وغير ذلك.
2. أقسام المقاصد باعتبار مرتبتها بالقصد :
وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين :
‌أ) المقاصد الأصلية : وهي المقاصد التي اعتبرها الشارع على وجه الأصالة والابتداء كالضروريات الخمس ونحوها.
‌ب) المقاصد التبعية : وهي التي لم تقصد أصالة وإنما لكونها تبعاً لمقاصد أصلية ،سواء كانت سابقة للمقصد الأصلي كالطهارة للصلاة ،أو مترتبة عليه كالنهي عن الفحشاء والمنكر .
3. أقسام المقاصد باعتبار الشمول :
وهي تنقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين :
‌أ) المقاصد العامة : وهي التي تدخل في كافة الأبواب كرفع الحرج، والعدل ،وإزالة الضرر ونحو ذلك .
‌ب) المقاصد الخاصة : وهي التي تتعلق بباب معين، فهناك مقاصد خاصة للعبادات، وأخرى للمعاملات، والجنايات، وهكذا.
وسيأتي تفصيل هذه التقسيمات وغيرها في حلقة نقاش مستقلة.
نشأة المقاصد وتطورها :
(فائدة) لمْ نقل نشأة علم المقاصد على اعتبار أن هناك جدلاً قديماً ولا يزال في المقاصد ، هل هي علم مستقل بذاته؟ أو أنها جزء من علم أصول الفقه ، وهناك رؤيتان في الموضوع، فمن العلماء من يرى أنها علم مستقل بذاته وأن أول من جعلها علما مستقلا هو الشاطبي، وينتصر لهذا الرأي كثير من الباحثين المعاصرين الذين تصدوا للكتابه في المقاصد، خصوصاً أهل المغرب العربي الذين حاولوا من خلال مؤلفاتهم أن يثبتوا أن علم المقاصد علم قائم بذاته.
في حين يرى أكثر الأصوليين من المتقدمين والمتأخرين أن المقاصد وإن كانت في غاية الأهمية إلا أنها ليست علما مستقلا عن أصول الفقه وإنما هي جزء منه بدليل : أن فطاحلة الأصول من المتقدمين لم يفصلوها عن أصول الفقه بل إن الشاطبي - وهو إمام المقاصد وأكثر من اهتم بها من المتقدمين – تناولها في السياق الأصولي، وغاية ما فعله أنه جعلها في باب مستقل، أو في كتاب مستقل ضمن كتابه الموافقات،وسماه كتاب المقاصد، من أجل أن يلفت الأنظار إليها).
نشأة المقاصد، وتطور الكتابة فيها:
سبق القول عند الكلام على إثبات المقاصد للشريعة أن القرآن أشار إلى بعض المقاصد العامة كرفع الحرج والعدل وغيرها ،كما أشار إلى بعض المقاصد الخاصة بالعبادات والمعاملات كالقصاص وغيرها ، والمتأمل في السنة النبوية يجد أنها اشتملت كذلك على بيان بعض المقاصد العامة والخاصة ، فمن الإشارات النبوية إلى المقاصد العامة: قوله عليه السلام ( لا ضرر ولا ضرار ) ، ( إن الدين يسر ) ومن الإشارات إلى المقاصد الخاصة : قوله عليه السلام ( يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ) ، ( إنما جعل الاستئذان من أجل البصر ) ويمكن للناظر في أقوال الصحابة إن يظفر- كذلك- بشيء منها، كقول ابن عباس- في تعليل رخصة الجمع بين الصلاتين في السفر- : (أراد ألا يحرج أحداً من أمته) ، وكان من منهج الصحابة الالتفات إلى العلل والمعاني الجامعة، والنظر في الحكم والمصالح ، ولهذا قام أبو بكر بجمع القرآن، واختار عمر عدم التسوية بين الناس في العطاء ، في حين أن أبابكر كان يسوي بينهم ، وهذا من باب الالتفات إلى السياسة ورعاية مصلحة الخلق، كما ذكر ذلك الغزالي ، ويدخل في هذا الباب حكمه بقتل الجماعة بالواحد ، ونفي نصر بن حجاج خشية افتتان النساء بجماله، ونحو ذلك .
وفي عصر التابعين وتابعيهم ظهر الاهتمام بالمقاصد بشكل أكبر من عصر الصحابة تبعاً لبروز دليل القياس وكثرة الاعتماد عليه مع اتساع رقعة العالم الإسلامي وكثرة الحوادث وقلة النصوص ، خصوصاً عند مدرسة أهل الرأي الذين يكثرون من الاعتماد على هذا الدليل ، وربما توسع بعضهم في التعليل فجعل المعنى الجامع بين الفرع والأصل هو الحكمة أو المقصد، وقد تقدم بيان الصلة بين المقاصد وتعليل الأحكام.
وفي المقابل لم يغفل أصحاب المدرسة الأخرى عن النظر في المقاصد ، فالإمام مالك - وهو الذي تنسب إليه مدرسة أهل الحديث أو الأثر- يكثر من الاعتماد على المصالح ، لدرجة أن الجويني الشافعي اتهمه بالإفراط بالأخذ بها، وعدّه أكثر الأئمة الأربعة اعتماداً عليها ، يقول الجويني : ( وأفرط الإمام إمام دار الهجرة مالك بن أنس في القول بالاستدلال فرؤي يثبت مصالح بعيدة عن المصالح المألوفة والمعاني المعروفة في الشريعة، وجرّه ذلك إلى استحداث القتل وأخذ المال بمصالح تقتضيها في أغلب الظن وإن لم يجد في تلك المصالح مستنداً إلى أصول ).. انتهى .
وهذا الكلام وإن كانت تفوح منه رائحة التعصب لمذهب الشافعي إلى أن حقيقة اعتبار المالكية للمصالح من المسلمات المعروفة، ولعل هذا يفسر اهتمامهم بهذا العلم بدأ من القرافي، ثم الشاطبي ،ووصولاً إلى ابن عاشور، وعلال الفاسي، وعلماء المغرب بعامة.
وعلى أي حال فإن هذا العلم لم يظهر كعلم مستقل في عصر الصحابة ولا في عصر التابعين وتابعيهم ، وإنما بدأت بوادر الإشارة إلى بعض مسائله مع ظهور التأليف في علم أصول الفقه على يد الإمام الشافعي ، حيث يمكن للناظر في كتبه المختلفة- كالرسالة والأم وأحكام القرآن واختلاف الحديث وإبطال الاستحسان - أن يلتقط بعض مسائل المقاصد من خلال كلامه في تعليل الأحكام، وتقسيمها إلى ما يعقل ومالا يعقل، وإشارته إلى وجوب مراعاة القواعد الكلية الشرعية ومصالحها في باب الاجتهاد واستنباط الأحكام ، إضافة إلى ذكره لبعض المقاصد العامة كحفظ النفس والمال والنسب، والمقاصد الخاصة بالطهارة والصوم والحج والقصاص وغيرها، بحسب ما ذكره الجويني
وبعد الشافعي كان لبعض علماء الأصول- وخصوصاً من الشافعية- اهتمام ظاهر بموضوع المقاصد في ثنايا مؤلفاتهم في أصول الفقه، وخصوصاً في أبواب الاستدلال، والمصلحة، والقياس.
ومن أبرز هؤلاء :
1) الجويني :
المتوفي سنة 478هـ، ويعد من أوائل العلماء الذين اظهروا العناية بالمقاصد بشكل صريح في كتبه المختلفة حيث إنه كثيراً ما يعبر بمصطلح المقصد ، والغرض، والكليات ،وهو من أوائل العلماء الذين قسموها إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وأكثر كلامه عن المقاصد في باب تعليل الأحكام، وما يقاس عليه وما لا يقاس ، إضافة إلى إشارته إلى المقاصد الضرورية الخمسة، ووسائل رعايتها والمحافظة عليها، وإشارته إلى بعض المقاصد الخاصة بالعقوبات والعبادات والمعاملات، وبعض قواعد المقاصد، كقاعدة ترك القياس الجلي إذا صادم القاعدة الكلية المستندة إلى ضروري.
2) الغزالي :
أبو حامد الغزالي ، المتوفي سنة 505هـ ، وهو من تلاميذ الجويني ومن أشهر الأصوليين الذي أظهروا اهتماماً بهذا العلم خصوصاً في كتابيه المستصفى وشفاء العليل، حيث نص على أن المصلحة هي المحافظة على مقصود الشرع، ثم قسم المصلحة باعتبار قوتها في ذاتها إلى الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وأشار إلى مكملات كل قسم، ونص على الضروريات الخمس وكيفية رعايتها ،وأشار إلى الطرق التي تعرف بها المقاصد، وهي الكتاب والسنة والإجماع والاستقراء، كما نبه على بعض قواعد المقاصد ،كقاعدة مخالفة مقصود الشرع حرام، وقاعدة كل ما يتضمن حفظ الأصول الخمسة فهو مصلحة وكل ما يفوت هذه الأصول فهو مفسدة ودفعها مصلحة.
3) الرازي :
المتوفي سنة 606هـ ، وهو كذلك ممن أشار إلى أهمية المقاصد من خلال بحثه في المصالح والقياس ويحسب له إدخالها في باب الترجيح بين الأقيسة.
4) الآمدي :
المتوفي سنة 631هـ ، وهو كذلك ممن اعتنى بالمقاصد في هذه الأبواب وزاد على ذلك الإشارة إلى ترتيب المقاصد، والترجيح بينها.
5) العز بن عبد السلام :
المتوفي سنة 670هـ ، وهو أحد تلاميذ الآمدي، ومن أبرز من اعتنى بهذا العلم قبل الشاطبي ، ولذلك أفرده بعض الباحثين المعاصرين بدراسة مستقلة، ويعود هذا إلى اهتمامه بالمصالح حيث صنف فيها كتاباً مهماً وهو قواعد الأحكام في مصالح الأنام ، وبما أن العلاقة بين المقاصد والمصالح وثيقة فقد تناول العديد من مسائل هذا العلم، كالمقصد العام من التشريع وهو ( جلب المصالح ودفع المفاسد ) وأقسام المقاصد، والضروريات الخمس، ووسائل رعايتها، وكيفية الترجيح بينها،والمقاصد الخاصة والجزئية ،كمقاصد الإيمان والصلاة والجهاد والحج ومقاصد المندوبات والمباحات وغيرها ، كما أشار إلى بعض قواعد المقاصد، وقد اختصر هذا الكتاب في كتاب آخر سماه :( الفوائد في اختصار المقاصد ).
6) القرافي :
المتوفي سنة 684هـ ، وهو أحد علماء المالكية البارزين في الفقه والأصول وقد أظهر اهتماماً بالمقاصد في كتابه ( شرح تنقيح الفصول ) وكتابه ( نفائس الفصول ) عند حديثه عن المصالح وعن القياس، كما بين بعض قواعد المقاصد في كتابه ( الفروق ) .

7) شيخ الإسلام ابن تيمية :
المتوفي سنة 728هـ ، وهو من أبزر العلماء الذين نبهوا على مقاصد التشريع، ويعود هذا إلى منهجه في الاجتهاد القائم على العناية بإقامة البراهين على المسائل الكلامية والفقهية من الأدلة الجزئية الخاصة مع التنبيه على الكليات والحِكم والمعاني العامة في الشريعة الإسلامية، ولعل هذا المنهج هو سر تميز شيخ الإسلام وبلوغه هذه المنزلة الرفيعة في علوم الإسلام كافة، ولتميز شيخ الإسلام في هذا العلم أفرده بعض الباحثينالمعاصرين بدراسة خاصة سماها مقاصد الشريعة عند ابن تيمية بين فيها جهود شيخ الإسلام وإسهاماته في المقاصد.
ومن أبرز ما أضافه شيخ الإسلام في هذا الفن ما يلي :ـ
1. إشارته إلى أن هذا العلم من العلوم الدقيقة بل سماه خاصة الفقه بالدين.
2. أنه أشار إلى أن المقاصد ليست خاصة بالأحكام الدنيوية المتعلقة بحفظ الضروريات الخمس فقط ، بل تشمل كذلك الأسرار والحكم التي تضمنتها العبادات الظاهرة والباطنة من الإيمان والمحبة والإخلاص والتوكل ونحو ذلك.
3. أنه أضاف بعض المقاصد الأخرى إلى المقاصد الضرورية، كمقصد العدل ، حيث يقول:(الشريعة مبناها على العدل) ومن الأمور التي أضافها :الائتلاف وعدم الاختلاف ، ومخالفة المشركين، ومخالفة الشياطين والهوى، و الجهاد، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة على محاسن العادات، ومكارم الأخلاق .
4. اهتمامه بالأصول ذات الصلة الوثيقة بالمقاصد كالمصالح والحكم وتعليل الأحكام وسد الذرائع والحيل.
8) الطوفي :
نجم الدين الطوفي المتوفي سنة 716هـ، وهو كذلك من أشهر العلماء الذين لهم باع واسع في علم المقاصد خصوصاً وأن له رأياً مثيراً للجدل في المصالح ،فهو يرى تقديم المصلحة على النص والإجماع في كل ما من شأنه التعليل، كالمعاملات ،ونحوها، وقد أفصح عن هذا الرأي عند شرحه لحديث ( لا ضرر ولا ضرار ) في كتابه التعيين في شرح الأربعين ، كما أظهر الاهتمام بالمقاصد في كتابه ( شرح روضة الناظر ) عند الكلام عن المصالح، وعند الكلام عن المناسب في باب القياس .
9) ابن القيم :
المتوفي سنة 751هـ، وهو شيخُ شيخ الشاطبي (المقري) وأشهر تلاميذ ابن تيمية، ويظهر اهتمامه بالمقاصد في عدة جوانب منها :
1. اهتمامه بالتعليل، وبيان نماذج من الآيات والأحاديث التي تضمنت بيان علة الحكم في كتابه شفاء العليل، وأعلام الموقعين .
2. اهتمامه بالمصالح ومراعاة الموازنة بينها وبين المفاسد.
3. تحريره لقاعدة تغير الفتوى بتغير الأزمنة والأمكنة .
4. عنايته بإبراز أسرار الشريعة وحكمها خصوصاً في كتابه مفتاح دار السعادة .
5. عنايته ببعض القضايا ذات الصلة بالمقاصد كمبدأ سد الذرائع والحيل وغيرها.
10) المقري :
المتوفي سنة 758هـ ، وهو من علماء المالكية المبرزين، وأحد شيوخ الشاطبي ،وربما كان حلقة الوصل بينه وبين ابن القيم وشيخ الإسلام وأحد العلماء الذين لهم إسهام واضح في علم القواعد الفقهية ،وقد كان له مساهمة ظاهرة في تكوين شخصية الشاطبي المقاصدية من خلال جوانب عدة أهمها ما يلي:
1. عنايته بذكر القواعد المتعلقة بالمقاصد في كتابه القواعد، ومنها: قاعدة مراعاة المقاصد مقدمة على مراعاة الوسائل، وقاعدة سقوط اعتبار المقاصد يسقط اعتبار الوسائل، وقاعدة الأصل في الأحكام المعقولية، والأصل في العبادات ملازمة أعيانها، وقاعدة تغليب المصلحة الغالبة على المفسدة النادرة، وغيرها من القواعد.
2. اهتمامه ببعض الأصول ذات الصلة بالمقاصد، كالمصالح وسد الذرائع والتعليل من خلال القواعد المتعلقة بهذه الأصول .
11) الشاطبي :
أبو إسحاق إبراهيم بن موسى المتوفي سنة 790هـ ، وهو بحق رائد هذا العلم، وأول من أبرزه وأفرده بأبواب مستقلة في كتابه ( الموافقات )، ولمكانته العالية في هذا العلم أفرده عدد من الباحثين بدراسات مستقلة تناولت شخصيته ودوره في بروز هذا العلم، ومن أشهر من كتب عن دوره في المقاصد د. أحمد الريسوني، حيث صنف كتاباً سماه ( نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي ) و د. حماد العبيدي في كتابه ( الشاطبي ومقاصد الشريعة ) وغيرهم ، وقد تناولت هذه الدراسات منهج الشاطبي في المقاصد، وجوانب التجديد عنده في هذا الفن، ويمكن تلخيص دور الإمام الشاطبي في الآتي :
1. تقسيم المقاصد وترتيبها حيث تقدم في المحاضرة الأولى أنه جعل المقاصد على قسمين :
أ‌) قصد الشارع ب) قصد المكلف
ب‌) ثم قسم قصد الشارع إلى أربعة أقسام :
1. قصده في وضع الشريعة ابتداءً .
2. قصده في وضعها للإفهام .
3. قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها .
4. قصده في دخول المكلف تحت حكمها.
2. تحرير الكلام في أهم مسائل هذا العلم ،كطرق معرفة المقاصد ،وخصائصها ،والأدلة على إثباتها للشريعة، وأقسامها بالاعتبارات المختلفة ،إضافة إلى تفصيل الكلام في الضروريات والحاجيات والتحسينيات، وكيفية المحافظة عليها من جانبي الوجود والعدم، وأهم الأسس والمبادئ التي جاءت بها الشريعة للمحافظة عليها، إضافة إلى التفريع وضرب الأمثلة والشواهد على أقسام المقاصد المختلفة .
3.ربط المقاصد بأصول الفقه والقواعد الفقهية ذات الصلة .
وبالجملة فالشاطبي يعد بحقٍ رائد هذا العلم وصاحب الفضل في ظهوره، وإن لم يكن واضع لبناته الأولى لوجود أكثر هذه اللبنات في كتب من سبقه من الأئمة الذين تقدمت الإشارة عنهم.
المقاصد بعد الشاطبي
تناول علماء الأصول بعد الشاطبي بعض المسائل المتعلقة بالمقاصد كما تناولها المتقدمون قبله في ثنايا كتب الأصول، وخصوصاً في الأبواب ذات الصلة ،كالمصلحة ،والقياس، وتعليل الأحكام ،ولم تظهر كتب مستقلة في هذا الفن بعد الشاطبي إلا في أواخر القرن الماضي ، حيث ظهر الاهتمام بالمقاصد في بلاد المغرب العربي، وتصدى عدد من علماء تلك البلاد للتصنيف فيه ومن أبرزهم: الطاهر بن عاشور ، وقد تقدمت الإشارة إلى كتابه في هذا الفن، ومن أبرز إضافاته لهذا العلم : محاولة ضبط المقاصد بحد يفصلها عما سواها ، وتقسيم المقاصد إلى المقاصد العامة والخاصة، وتفصيل القول فيها، وإضافة بعض المقاصد العامة كالمساواة ،والحرية، وغيرها، وممن صنف في هذا العلم كذلك علال الفاسي ، حيث صنف كتابه مقاصد الشريعة ومكارمها، والكتاب وإن بدا من عنوانه أنه من الكتب المتخصصة في هذا الفن إلا أنه ليس ككتاب ابن عاشور المتمحض في المقاصد، بل إن الكاتب خرج عن هذا الفن إلى مسائل كثيرة لا علاقة لها بالمقاصد وإن كان يحسب له محاولته تعريف هذا العلم، والإشارة إلى المقاصد العامة .
وبعد هذين العالمين خرجت مجموعة من الكتب والدراسات المتخصصة بهذا العلم سبق ذكرها في المحاضرة الأولى.





أهمية مقاصد الشريعة:
مقاصد الشريعة من العلوم المهمة التي لايستغني عنها كل مسلم، لكن كلٌ بحسبه، وسنجعل الكلام في أهميتها على النحو التالي :
1/ أهمية المقاصد للمجتهد.
2/ أهمية المقاصد للعامي.
3/ أهمية المقاصد للمتخصص في الفكرالإسلامي أو في الثقافة الإسلامية.
أولاً: أهمية المقاصد للمجتهد:
يعد العلم بمقاصد الشريعة أحد شروط الاجتهاد، وقد صرح باشتراطه جمع من علماء الأصوال كالعز ابن عبدالسلام وابن السكبي والشاطبي، وغيرهم..
يقول الشاطبي: (إنما تحصل درجة الاجتهاد لمن اتصف بوصفين:
1) فهم مقاصد الشريعة على كمالها..
2) التمكن من الاستنباط بناء على فهمه منها).
ومن لم يصرح باشتراط هذا الشرط من علماء الأصوال فلأنه متحقق حتماً فيمن توفرت فيه الشروط المفصلة التي ذكروها، ولعل مما يؤكد هذا أنهم يكادون يتفقون على اشتراط ملكة النظر والتمكن من الاستنباط، والتي يعبر عنها بعضهم بالقريحة، ولاشك أن هذه الملكة هي التي تمكن المجتهد من المقارنة، والتحليل، والاستنتاج، وإدراك العلاقة بين الأدلة الجزئية، والتوصل إلى المعاني الكلية من خلالها..
وتظهر حاجة المجتهد إلى مقاصد الشريعة في جوانب مهمة هي:
1. فهم النصوص وتفسيرها ومعرفة دلالاتها..
2. الترجيح بين الأدلة المتعارضة والتوفيق بينها..
3. معرفة أحكام الوقائع التي لم يرد بشأنها نص خاص..
4. التمكن من تحقيق المناط وتنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع بحسب الظروف الزمانية والمكانية، والأحوال..
5. تحقيق التوازن والاعتدال وعدم الاضطراب في الاجتهاد..
وممن أشار إلى أهمية العلم بالمقاصد في الاجتهاد: الشافعي والجويني والغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية..
يقول الجويني: ومن لم يتفطن لوقوع المقاصد في الأوامر والنواهي فليس على بصيرة في وضع الشريعة..
ويقول الغزالي: مقاصد الشرع قبلة المجتهدين من توجه جهة منها أصاب الحق..
ويقول ابن تيمية: لابد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل ثم يعرف الجزئيات كيف وقعت،وإلا فيبقى في كذب وجهل في الجزئيات وجهل وظلم في الكليات ،فيتولد فساد عظيم.
ويقول رحمه الله: (من فهم حكمة الشارع كان هو الفقيه حقاً).
لكن ينبغي التنبيه على أمر مهم هنا وهو:أن الإشارة إلى أهمية المقاصد في الاجتهاد لا تعني الاستغناء بها في هذا الباب وإهمال الأدلة الجزئية،فإن هذا النهج يعد تمييعاً للشريعة الإسلامية وتقديماً للرأي على الوحي، فالأصل في الدين هو الأدلة الجزئية الخاصة، وهي التي كشفت لنا عن هذه المقاصد العظيمة، فلا يجوز بعد ذلك أن تعود عليها المقاصد بالإبطال،ولهذا فإن الاجتهاد المقاصدي ينبغي أن يقوم على الموازنة الدقيقة بين الكليات والأدلة الجزئية، فيكونان بالنسبة للمجتهد بمثابة جناحي الطائر،فهذا هو المنهج السليم الذي سار عليه الأئمة المجتهدون، والمتمكن منه هو العالم الذي يستحق الوصف بالرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، كما يقول الشاطبي..
قال الإمام الشافعي- مبيناً المنهج الذي ينبغي أن يسير عليه المجتهد- : إذا وقعت الواقعة فأحوج المجتهد إلى طلب الحكم فيها فينظر أولاً في نصوص الكتاب فإن وجد مسلكاً دالاً على الحكم فهو المراد،وإن أعوزه انحدر إلى نصوص الأخبار المتواترة، فإن وجده وإلا انحط إلى نصوص أخبار الآحاد،( إلىأن قال رحمه الله): فإن عدم المطلوب في هذه الدرجات لم يخض في القياس بعد ولكن ينظر في الكليات ومصالحها العامة..
ويقول الشاطبي : فالحاصل أنه لا بد من اعتبار خصوص الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد..
ويقول شيخ الإسلام: ومن علم الكليات من غير معرفة المعين فمعه الميزان فقط، والمقصود بها وزن الأمور الموجودة في الخارج ،وإلا فالكليات لولا جزئياتها المعينات لم يكن بها اعتبار، كما أنه لولا الموزونات لم يكن إلى الميزان من حاجة..
ثانياً: أهمية المقاصد للعامي:
يرى بعض العلماء الذين تصدوا للكتابة في المقاصد كابن عاشور أن المقاصد ليست من شأن العوام،فيقول: فحق العامي أن يتلقى الشريعة بدون معرفة المقصد لأنه لا يحسن ضبطه ولا تنزيله.
وهذا الكلام إن كان المقصود به أنهم لا يجوز لهم الخوض في المقاصد وأخذ الأحكام الشرعية من خلالها كالمجتهدين فهو في غاية الصواب، لأن علم المقاصد من العلوم الدقيقة ، والاجتهاد من خلاله مركب عسير وطريق وعرة حتى على المجتهدين أنفسهم، وإن كان مراد ابن عاشور بكلامه هذا أنه لا يحسن إطلاع العوام على المقاصد وتعرفيهم بها من قبل المجتهدين فهو غير صحيح فإن في تعريفهم بها فوائد كثيرة منها:
1/ حصول الطمأنينة والقناعة بصحة الحكم الجزئي الذي سأل عنه وبأحكام الشريعة والدين على وجه العموم، وهذا الأمر يبعث على زيادة إيمانه، ورسوخ يقينه..
2/ تحصين المسلم ضد المبادئ الضالة والأفكار المنحرفة خصوصاً في هذا العصر الذي يشهد اختلاط الثقافات وترويج الشعارات البراقة، كحقوق الإنسان ،وحقوق المرأة، ونحو ذلك من الدعايات التي تقع على مسامع العامي ليلاً ونهاراً..
3/ تنبيه المسلم إلى أهمية موافقة قصد الشارع، وأن تكون مقاصده تابعه لمقاصد الشارع ليتجنب التحايل عليها أو التهرب منها سواء في العبادات أو المعاملات أو النكاح أو الطلاق أو غير ذلك..
ثالثاً:أهمية المقاصد للمتخصص في الثقافة الإسلامية:
تبرز أهمية علم المقاصد للمتخصص في الفكر الإسلامي ومدى الحاجة إليه في هذا المجال من خلال ما يأتي:
1) ربط قضايا الفكر الإسلامي بمقاصد الشريعة ،بحيث يكون طرح المثقف المسلم قائماً على التأصيل ومعتمداً على القواعد العامة للتشريع ،وهو مايعطي الطرح مصداقية ظاهرة، ويجعله أدعى للقبول والاقتناع من قبل المتلقين ،خصوصاً وأن المقاصد كما تقدم تدور حول جلب المصلحة ودفع المفسدة ،والناس بطبيعتهم يميلون إلى ما يحقق هذه الغايات لهم..
2) ترتيب الأوليات من القضايا، وبالبدء بالأهم قبل المهم ،فالمفكر المسلم الملم بالمقاصد يدرك أهمية تقديم الضروريات على الحاجيات، والحاجيات على التحسينيات، كما يدرك أهمية مراعاة أحوال الناس وظروفهم المكانية والزمانية..
3) القدرة على استيعاب النوازل الفكرية والقضايا الثقافية المستجدة، فأن أبرز سمات المقاصد وخصائصها(العموم والاطراد)فهي من الشمول بحيث يمكن أن تستوعب كافة القضايا والنوازل، وهي في الوقت ذاته مطردة تكفل تحقيق مصالح الخلق في كل زمان ومكان دون اختلال أو تغيير فيها..
4) العلم الصحيح بالمقاصد يمكن المثقف المسلم من التصدي للتيارات الحديثة ودعاوى التجديد الجانحة التي تحاول توظيف النظر في المقاصد كغطاء لتحكيم الرأي والهوى، والتملص من الأدلة الجزئية الخاصة.

العلاقة بين المقاصد وأصول الفقه:
أصول الفقه كما لايخفى هو العلم الذي يبحث في أدلة الفقه الإجمالية وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد..
ومقاصد الشريعة ولاشك ولدت من رحم هذا العلم، فالأصوليين قبل الشاطبي وبعده ما فتئوا يشيرون إليها ويتناولها بالبحث - وإن باختصار- في ثنايا المسائل الأصولية ذات الصلة الوثيقة بالمقاصد، كالمصالح ،والقياس، وتعليل الأحكام، والاجتهاد، وغير ذلك،وقد تقدم بيان ذلك عند الكلام في تاريخ المقاصد..
لكن الشاطبي وهو رائد علم المقاصد سلك منهجاً فريداً في تقسيمه لها يجعلها أكثر ارتباطاً بهذا العلم، حيث تقدم بيان منهجه فيها وأنه قسمها إلى : قصد الشارع -و قصد المكلف..
ثم قسم قصد الشارع إلى أربعة أقسام:
1/ قصده من وضع البشرية ابتداء وأنه وضعها لمصالح العباد في الدارين..
2/ قصده في وضعها للإفهام، وقد تناول تحت هذا القصد كون الشريعة ورادة باللغة العربية ،والمباحث اللغوية المتعلقة بذلك..
3/ قصده في وضعها للتكليف بمقتضاها، وقد تناول تحت هذا الموضوع اشتراط القدرة في التكليف ،وما يتصل بذلك..
4/ قصده في دخول المكلف تحت حكمها، وهو أن يتخلص العبد من داعية هواه ،فيكون عبداً لله باختياره كما هو عبداً لله اضطراراً..
وقد تناول الشاطبي تحت هذا المقصد جملة من المسائل الكلامية، كشكر المنعم، والكرامات، وغيرها، كما تناول تحته جملة من المسائل الأصولية ،كالاحتجاج بالأعراف، وقاعدة الأصل في العبادات التوقيف، والأصل في المعاملات التعليل، وغير ذلك..
وبغض النظر عن منهج الشاطبي هذا وسواء وافقناه أم خالفناه فإن لعلم المقاصد صلة وثيقة بقضايا مهمة تعد من صميم أصول الفقه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق